استيقظت الأوساط الاقتصادية في صباح يوم الثالث والعشرين من سبتمبر على مفاجأة صادمة، وهي الإعلان عن إفلاس شركة “توماس كوك” للسياحة والسفر؛ إحدى أقدم شركات السياحة في العالم. أوضحت توماس كوك أنها ستقوم برفع دعوى قانونية لإعلان إفلاسها وتصفية أصولها. وكان ذلك بعد قضاء ما يربو من 178 عامًا في سوق السياحة والسفر العالمي.
هذا الإعلان أدى إلى زرع البلبلة في عدة مطارات عالمية، إذ تقطعت السبل بحوالي 600 ألف مسافر حول العالم بعد هذا الانهيار المفاجئ. من أجل ذلك، أعلنت الحكومة البريطانية أنها قد وضعت خططًا لإعادة السائحين العالقين. وذلك عن طريق عملية إجلاءٍ للمواطنين البريطانيين، التي تعد الأكبر من نوعها منذ الحرب العالمية الثانية. ويُتوقع أن تصل تكلفة إعادة السائحين 50 مليون دولًار بالاستعانة بخطوط جوية أمريكية وماليزية وشركات طيران مستأجرة حول العالم.
تأثرت بهذا الانهيار بعض البلدان العربية أيضًا، حيث تعد دول جنوب البحر المتوسط سوقًا رئيسية لتوماس كوك. على سبيل المثال، في مصر ألغيت حجوزات 25 ألف سائح حتى إبريل 2020، وفي تونس لا يزال 4500 عميل يقضون عطلاتهم بالبلاد، كما تدين الشركة للفنادق التونسية بنحو 66 مليون دولار. أما عن المغرب فقد خسر قطاع السياحة 400 ألف سائح كان من المتوقع أن تنقلهم توماس كوك للبلاد خلال العام المقبل.
أثار إفلاس شركة توماس كوك المفاجئ العديد من علامات الاستفهام. إذ أنه كيف لشركة معروفة مثل توماس كوك، تخدم 19 مليون عميل سنويًا وبلغت إيراداتها في عام 2018 أكثر من 12 مليار دولًار أن تنهار بهذا الشكل المفاجئ؟ في وقت كانت تنتعش فيه حركة السياحة والسفر في مختلف بلدان العالم. فما هي الدروس التي يمكن الاستفادة بها من هذه النهاية الدرامية؟ لكن قبل ذلك دعنا نتعرف أولًا على شركة توماس كوك عن قرب.
ما هي شركة توماس كوك؟
تُعد شركة توماس كوك: مجموعة سياحة وسفر بريطانية تشتهر بتقديم الراحة المتميزة للمسافرين. تتكفل الشركة بتنظيم كل مراحل السفر، بدءًا من رحلة الطيران ذهابًا وعودة، ثم حجز الغرف الفندقية ووسائل النقل الداخلية. إذ تتكفل الشركة بتوفير الوجبات وتنظيم الجولات السياحية وتنظيم حفلات الزفاف إذا كنت مقبلًا على الزواج. تقدم الشركة خدماتها تحت شعار “الشيء الوحيد الذي تحتاج إلى القيام به هو أن تحزم حقيبتك وتذهب”.
تأسست شركة “توماس كوك” في القرن قبل الماضي عام 1841، وكانت في البداية تنظم رحلات السكك الحديدية. لكن، بمرور العقود أصبحت تنقل المسافرين إلى 82 وجهة في العالم في أفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية. وتمتلك توماس كوك مجموعة فنادق وشركة طيران خاصة بها بأسطول طائرات يضم 34 طائرة. بالإضافة إلى ذلك، تقدم توماس كوك خدمات السياحة والسفر إلى عملائها من 16 دولة. وذلك عن طريق الاعتماد على 600 فرع رئيسي يعمل بها ما يزيد على 21 ألف موظف حول العالم.
كيف انهارت توماس كوك؟
رسم تخطيطي يُظهر انهيار سعر سهم الشركة عام 2019/ مصدر الصورة
على عكس ما هو شائع، فإن إفلاس توماس كوك لم يكن أمرًا مفاجئًا للعديد من المحللين والخبراء الاقتصاديين. وذلك بسبب أنه قد سبق هذا الانهيار عدة أسبابًا جعلت سيناريو الإفلاس إحدى السيناريوهات المرجح حدوثها. تتعلق أسباب إفلاس توماس كوك بجوانب مختلفة مالية واجتماعية وسياسية وحتى بيئية كالطقس.
تداخلت أسبابٌ مثل: المنافسة الشرسة مع شركات السفر عبر الإنترنت، وتراكم الديون وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مع موجة الطقس الحار والاضطرابات السياسية في جميع أنحاء العالم. الأمر الذي أدى إلى مزيد من الضغط على الشركة في اتجاه واحد بلا عودة وهو الانهيار والإفلاس.
المنافسة على الإنترنت
فشلت توماس كوك في مجاراة منافسيها من مواقع السفر عبر الإنترنت مثل (Expedia) و(Booking Holdings). حيث أنه في الوقت الذي ازدادت فيه حجوزات العطلات عن طريق الحجز الرقمي عبر الإنترنت، كانت توماس كوك ما تزال تعتمد على فروعها “المادية” وتقدم خدماتها للعملاء عبر الهاتف.
بالإضافة إلى ذلك، لم تتطور توماس كوك بما يكفي لمجاراة تغير سلوك المستهلكين. ففي الوقت الذي يسعى فيه المسافرون إلى قضاء عطلة منخفضة التكلفة، وذلك عن طريق البحث عن الخيارات التي يرغبون بها، مثل: الطيران والإقامة والجولات السياحية بشكل منفصل وبأسعار تنافسية، كانت توماس كوك ما تزال تعتمد على تقديم حزمة خدمات متكاملة أصبح الإقبال عليها في انخفاض.
جبل الديون
تعاني توماس كوك منذ فترة طويلة من ميزانية تفيض بالديون. ففي عام 2011 كانت الشركة على شفا الإفلاس عندما وصلت ديون الشركة إلى ملياري جنية استرليني. ولكن، استطاعت تجنب هذا المصير بجمع 425 مليون جنيه استرليني كتبرعات لإنقاذ الوضع.
غير أن هذه المرة لم تكن كسابقتها، إذ نجحت الشركة -كي تعالج مديونيتها الكبيرة- في الحصول على 900 مليون جنيه استرليني كدَفعة إنقاذ. وبالرغم من ذلك، كانت بحاجة إلى 200 مليون استرليني إضافيين. ولكن بعد مطالبة البنوك الدائنة بهذا المبلغ في اللحظات الأخيرة، وفشل الشركة في الحصول عليه بعد تعثر المفاوضات مع المساهمين، كان ذلك بمثابة المسمار الأخير في نعش الشركة. أعلنت توماس كوك على إثر ذلك إفلاسها.
اقرأ أيضًا: من كتاب Never Split The Difference: دروس من الإف بي آي سوف تساعدك في كسب مفاوضات العمل
موجة الطقس الحار
منذ عام 2018 أصبحت الشمس تشرق بسخاء على أنحاء المملكة البريطانية، وهو الأمر الذي “أذاب” الكثير من مبيعات الشركة. اعتدال الطقس بالنسبة للمواطنين البريطانيين؛ يعني أنهم ليسوا بحاجة إلى إنفاق آلاف الجنيهات الاسترلينية للسفر من أجل الحصول على دفء أشعة الشمس. بدلًا من ذلك، يمكنهم الحصول عليه من المنزل بمجرد الجلوس في الشرفة.
عادة ما تلجأ شركات السياحة والسفر مثل توماس كوك إلى شراء الغرف الفندقية في بداية العام، وبيعها خلال شهور الصيف. غير أن الموجة الحارة وما صاحبها من الانخفاض غير المتوقع في الطلب على الرحلات السياحية، اضطر الشركة إلى بيع الكثير من الغرف بأسعار منخفضة.
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي
أدى عدم استقرار ملف الخروج من الاتحاد الأوروبي إلى تأجيل العديد من المواطنين البريطانيين خطط قضاء عطلاتهم لفصل الصيف انتظارًا لما ستؤول إليه الأمور. كذلك، أثار هذا الملف مسألةً أخرى تواجه شركات السفر البريطانية، إذ أدى عدم الاستقرار إلى تراجع الجنيه الاسترليني أمام الدولار. بالتالي، انخفاض قوته الشرائية مما أدى إلى صعوبة توفير رحلات خارجية بأسعار معقولة. بالإضافة إلى ذلك، أثر هذا التراجع على ارتفاع تكلفة وقود الطائرات الذي يُشترى بالدولار.
الاضطرابات السياسية في الأسواق الرئيسية
تعد الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط من الوجهات الرئيسية لرحلات توماس كوك. ولكن نظرًا للاضطرابات السياسية التي تموج بها هذه المنطقة في تركيا وسوريا ومصر وتونس وتنامي المخاوف المرتبطة بالإرهاب، تأثر قطاع السياحة بشدة في هذه البلدان التي تعتمد عليها توماس كوك بشكل كبير. بالإضافة إلى ذلك، عدم الاستقرار السياسي الذي لم يكن محليًا فقط داخل بريطانيا، وإنما كان له بُعد دولي في أسواق الشركة الرئيسية، مما ساهم في تزايد الضغوط الداخلية والخارجية على الشركة.
خطوط توماس كوك الجوية باهظة التكلفة
في أوائل عام 2000 أنشئت “توماس كوك” شركة الخطوط الجوية الخاصة بها (Thomas Cook Airlines) وكان هذا القرار باهظ التكلفة على الشركة وعده الخبراء مصدرًا رئيسيًا لمشاكل الشركة. ففضلًا عن تكاليف التأسيس، تتطلب شركات الطيران تكاليف تشغيل وصيانة ضخمة.
في ظل موسمية الطلب على الرحلات والذي يتركز خلال أشهر الصيف، تعاني (Thomas Cook Airlines) من ركود خلال الأشهر غير الموسمية. نتيجة لذلك، شكل هذا الركود عبئًا على خطوطها الجوية. بالإضافة إلى ما سبق، فإن الشركة فشلت في المنافسة مع شركات الطيران الأخرى المستقلة التي تقدم جداول زمنية أكثر تنوعًا.
قد يُهمك أيضًا: 5 أشياء يُمكن لرواد الأعمال تعلمها من إيلون ماسك
الدروس المستفادة من إفلاس توماس كوك
مصدر الصورة
بالنظر إلى المشكلات السابقة التي واجهت توماس كوك على الرغم من عراقتها وتاريخها الكبير، فإن الدروس التي يمكن استخلاصها من هذا السقوط المدوي يتلخص في:
1. أهمية القرارات الإبداعية
في دراسة نشرتها مجلة هارفارد بزنس ريفيو عن مراحل الشركات، أشار الباحثون إلى أهمية اتخاذ القرارات الإبداعية عندما تصل الشركة لمرحلة النضج. وذلك حتى تحافظ الشركة على روح المبادرة وتتجنب الدخول في مرحلة الجمود. تجنبت توماس كوك اتخاذ قرارات إبداعية كي تجاري المنافسين، مثل توفير خيارات منفصلة عديدة للمسافرين بأسعار جيدة، وتسهيل التعاقد على رحلات عبر الإنترنت. ومضت الشركة بثقة في طريق الجمود، واحتفظت بنموذج أعمالها القديم القائم على “حزمة الخدمات المتكاملة”.
2. مجاراة التغير في أذواق المستهلكين
أدى ظهور الإنترنت إلى إحداث ثورة تسببت في تغير البنية الاقتصادية الداخلية للعديد من المجالات التجارية. نتيجة لذلك، تم إطاحة كيانات اقتصادية قديمة ومهيمنة واستبدلها بكيانات أخرى جديدة أكثر قدرة على البقاء وعلى مجاراة التغيير السريع في أذواق المستهلكين. على سبيل المثال، أصبح الناس يتجهون بشكل متزايد إلى الشراء من أكثر من منفذ تسوق بحثًا عن أفضل الأسعار بدلًا من الولاء لمتجر واحد والاكتفاء به كمنفذ تسوق وحيد لجميع السلع. لذا، فإن الشركة التي لا تضع في حسبانها التكيف مع هذا التغير في السوق وفي أذواق المستهلكين تهدد قدرتها على البقاء.
3. إدارة مرنة للمخزون
تشكل الإدارة المرنة للمخزون عنصرًا مهما يحمي الشركة من الوقوع في مشاكل فائض الطلب أو نقصه. وهذا ما لم تتجنبه توماس كوك، فعندما اشترت غرفًا فندقية بشكل مسبق، تفاجأت بانخفاض الطلب مما أدى إلى اضطرارها لخفض أسعار الغرف من أجل تحقيق بعض المبيعات. هنا، ينبغي للشركات المحافظة على مستويات مخزون منخفضة، لكن مع امتلاكها القدرة على رفع مستويات التخزين بسرعة في حالة ارتفاع الطلب للوفاء باحتياجاته.
4. الحفاظ على الاقتراض عند مستوى آمن
عانت توماس كوك لفترة طويلة من تفاقم مشكلة الديون، خاصة في ظل ضعف قدرتها التنافسية أمام شركات السفر عبر الإنترنت. بالتالي، انعدام قدرتها على تسديد الأعباء المالية للقروض التي حصلت عليها فضلًا عن تسديد أصل القرض. من أجل ذلك، فإن الاقتراض يُعد من الأمور التي ينبغي أن تتعامل معها إدارة الشركة بحذر، وألا تلجأ إليه إلا في حالات الضرورة فقط وضمن الحدود التي تستطيع الشركة الوفاء بها. وذلك كي لا تنزلق الشركة إلى فخ الديون المتراكمة.
ختامًا، إفلاس شركة توماس كوك فضلًا عن كونه مأساة لموظفيها وعملائها، فهو أيضًا حدث يدعو إلى التفكير واستخلاص دروس عديدة منها لأخذ الاحتياطات ومحاولة تجنب الأخطاء التي وقعوا بها.
تم النشر في: سبتمبر 2019
تحت تصنيف: ريادة أعمال | نصائح ريادية
مقال و تجربة مفيدة جدا لشركات السياحة
لم ترشد شركة توماس كوك نفقاتها التشغيلية الضخمة، مما ضخم ديونها التي بلغت 1.7 مليار جنيه استرليني وأدى في النهاية لافلاس الشركة العريقة بسبب تراكم تلك الديون.
استمرت الشركة في انتهاج سياسة قديمة – كما ذكر في الموضوع – تعتمد على برامج الشركة القديمة والتي لم تتلائم مع المنافسة المتجددة وتقلبات السوق وتأثر القطاع السياحي بشكل خاص بالتوترات الامنية.
بدلاً من التوجه نحو الانترنت ومواكبة التغيرات استمرت الشركة في نهج قديم عرضها للتبدد والانهيار ! وكانت في النهاية النتيجة الحتمية وهي اعلان افلاس الشركة ..