العمل العميق: كيف تحقق التركيز في عالم مليء بالمشتتات

وصف الكتاب: يتألف كتاب العمل العميق (Deep Work) من جزئين، الأول يتحدث عن فرضية العمل العميق وأهميته في الاقتصاد الرقمي الحالي مع سرد العديد من القصص لأشخاص معاصرين احترفوا هذه المهارة وحققوا إنجازات مبهرة. ثم بعد ذلك يأتي الجزء الثاني من الكتاب ليتحدث عن عدد من القواعد التطبيقية لتدريب الدماغ البشرية على مهارة العمل العميق في ظل عصر المشتتات.

نبذة عن الكاتب: “كال نيوبرت” هو أستاذ علم الحاسوب لدى جامعة جورج تاون، حاصل على الدكتوراة من معهد MIT. طبيعة عمل نيوبرت جعلته يمارس العمل بعمق في مهنة تستلزم قدرة هائلة على التركيز. نشر كال نيوبرت عددًا من الكتب حتى أصبح صاحب أكثر 7 كتب مبيعًا في نيويورك تايمز، ومنها كتابي: التخفف الرقمي، وعالم بلا بريد إلكتروني.


مقدمة

يمكن تعريف العمل العميق بأنه العمل بتركيز تام لفترات طويلة دون انقطاع بهدف الوصول إلى أقصى قدرات العقل البشري، لتحقيق اختراقات معرفية. وتتلخص فرضية الكتاب في نقطتين؛ الأولى أن مهارة العمل العميق أصبحت أكثر المهارات قيمة في الاقتصاد الرقمي الحالي. خاصة، مع الحاجة المستمرة للتعلم المستمر تبعًا للتطور السريع في التكنولوجيات الحاضرة ومجالات تعلم الآلة والذكاء الاصطناعي التي تُعد صعبة الفهم وتحتاج إلى تركيز شديد، لا يتحقق إلا بالعمل بعمق.

النقطة الثانية، أن مهارة العمل العميق مهارة نادرة. فمع انتشار أدوات الإنترنت والتواصل عن بعد التي جعلت من التركيز على مهمة -تتطلب قدرات معرفية وذهنية- لوقت طويل شيء يصعب تحقيقه ويندر من يتقنه. نتيجة لذلك، وبمنطق السوق يمكننا أن نفهم المعضلة التي نواجهها جميعًا اليوم، والتي يعالجها المؤلف في كتابه وهي أنه في الوقت الذي يكثر فيه الطلب على هذه المهارة يقل العرض، ما يعني أن القلة القادرين على ممارسة العمل بعمق من خلال جعله محور حياتهم هم من سينعمون بالازدهار المهني في العصر الحالي.

أهمية العمل العميق في العصر الحالي

مع ظهور التكنولوجيا الرقمية تغيّرت طبيعة سوق العمل بشكل ملحوظ لصالح الأتمتة، مما وضع جميع العاملين في سباق محموم ضد الآلة. وفي الوقت الذي تتقدم فيه التكنولوجيا بوتيرة متسارعة، لا تزال العديد من المؤسسات بل والمهارات الفردية متخلفة عن الركب، الأمر الذي يعزز من الفجوة بين العمال والآلة، ولا يملك فرصة الازدهار في هذا الاقتصاد الجديد إلا من كان ضمن ثلاثة مجموعات من البشر:

1. أصحاب المهارات العالية

في الوقت الذي أصبحت فيه أغلب المهام التي يؤديها ذوي المهارات المنخفضة مؤتمتة، أصبح الاستغناء عنهم الحل الأكثر توفيرًا في مقابل الآلة، وزادت في المقابل القيمة التي يحققها أصحاب المهارات العالية في إدارة وتطوير هذه العمليات المؤتمتة. على سبيل المثال، ازدادت الحاجة إلى مهارات: تحليل البيانات وتعلم الآلة والذكاء الصناعي والبرمجة والاتصال السريع، إلخ.

2. النجوم البارزين

لكن هل يتوقف الأمر على مجرد امتهانك لإحدى المهن التي تستلزم المهارات سالفة الذكر؟ للأسف، لا يزال الخطر قائمًا، فمع سهولة العمل والتوظيف عن بعد والأدوات والتكنولوجيات المصاحبة لها، أصبحت الشركات قادرة على توظيف الأفضل خاصة إذا أخذنا بالحسبان العمل عن بعد، ونعني بالأفضل هنا، الأفضل على مستوى العالم!

فلماذا توظف الشركة عددًا من المطورين المبتدئين أو متوسطي المهارة لتطوير تطبيق ما، لو أمكنها في المقابل أن توظف أحد النجوم البارزين في هذا المجال، وتحصل على عمل أفضل في وقت أقل وعلى الأغلب، بمقابل مادي أقل أيضًا.

3. أصحاب المشاريع

المجموعة الأخيرة التي ستنتعش في ظل الاقتصاد الحالي هم أصحاب المشاريع الذي يستثمرون أموالهم في التقنيات الجديدة التي تشكل الاقتصاد الرقمي الذي نعيشه. السؤال الآن، لماذا تحديدًا الاستثمار في التكنولوجيا؟ الإجابة البسيطة، لأن التكنولوجيا قللت الحاجة إلى العمالة، وهذا يعني مزيد من الأرباح الخالصة لأصحابها. وخير مثال على ذلك، شركة انستقرام التي بِيعت بمليار دولار في حين أن عدد موظفيها آنذاك، كان 13 موظف لاغير.

الآن، كيف يمكنك الانضمام إلى إحدى هذه المجموعات، يجادل كال بأن الأمر يتطلب قدرتين أساسيتين:

  1. القدرة على تعلم الأشياء الصعبة والمعقدة بسرعة
  2. القدرة على الإنتاج، هذا الإنتاج ينبغي أن يكون في مستوى النخبة، من جهة السرعة والجودة.

لكي تمتلك القدرتين السابقتين لا بد من تمرّس مهارة العمل العميق، لأنك إن لم تكن قادرًا على العمل بعمق فسوف تعاني بشدة عند تعلم الأشياء الصعبة والمعقدة ولن تتمكن من الإنتاج المنتظم والذي يحقق قيمة مضافة في هذا العالم.

كيف يساعد العمل العميق على تعلم الأشياء الصعبة؟

لكي تتعلم الأشياء الصعبة، ستحتاج إلى التركيز الكامل على مهمة واحدة من خلال العمل لفترات طويلة خالية من التشتيت.

حاول الخبراء في علم نفس الأداء معرفة ما يتميز به الخبراء في مجالاتهم عن غيرهم، إذ إن الفهم العميق لمجال ما، يحتاج إلى معالجة القضايا ذات الصلة بشكل منهجي، إذ يعمل الدماغ البشري على كشف طبقات الانتباه التي توصل إلى الحقيقة الكامنة وراء كل علم، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال مدة كافية من التركيز المكثف بدون أي نوع من المشتتات.

ويمكننا أن نخلص بجواب واضح لهذه القضية وهو ما يسمى: الممارسة المتعمدة أو المخططة (deliberate practice). تعلم الأشياء الصعبة يحتاج إلى فترات تركيز مكثف بدون أي إلهاء، وكلما تمكنت من ممارسة العمل العميق وأصبحت قادرًا على الدخول فيه واستدعائه بسرعة، تعلمت الأشياء المعقدة بدون عناء مرة بعد أخرى.

كيف يساعد العمل العميق في الوصول إلى ذروة الإنتاجية؟

إذا لم تألف العمل العميق لفترات طويلة سيكون من الصعب أن تصل إلى ذروة الإنتاجية اللازمة للازدهار المهني ومهما كنت موهوبًا وحاد الذكاء، فسيتفوق عليك من هو دونك إذا مارس العمل بعمق.

إحدى النماذج التي يحب نيوبرت الاستشهاد بها حينما يتحدث عن الإنتاج المكثف في مستوى النخبة، هو نموذج آدم غرانت الذي يعد أصغر أستاذ جامعي في كلية وارتون للأعمال ببنسلفانيا. السبب الرئيس الذي أوصل آدم إلى هذا المنصب أنه أنتج ما يصل إلى 14 ورقة بحثية متخصصة، هذا المستوى من الإنتاج لم يسبقه إليه أحد.

على الرغم من أن غرانت كان لا يعمل عدد ساعات أكبر من أقرانه فقد استطاع إدارة ساعات العمل بكفاءة، والفكرة المركزية في إنتاجيته تعتمد على تجميع الأعمال الشاقة والتي تحتاج إلى مجهود ذهني لإنجازها في وقت مكثف وممتد دون انقطاع. فكان تركيزه في الخريف والشتاء على التدريس ومتابعة الطلاب في حين كان يقضي الصيف والربيع في العمل على أبحاثه.

ويوزع آدم انتباهه إلى فترات زمنية أصغر في خلال الفصل الواحد، ففي فترات التركيز الشديد حيث يعزل نفسه في مكتبه ويضع كل وسائل التواصل معه للمستجيب الآلي، لفترة قد تمتد لثلاثة أو أربعة أيام لمعالجة وبحث قضية واحدة، ثم يعاود -بعد انتهاء الفترة- التواصل مع طلابه والرد على رسائل البريد، وهو ما سبب لهم إربكًا إذ كانوا يرونه في مكتبه على رأس عمله لكن لا يجيب على البريد الإلكتروني!

يلخص نيوبرت الكيفية التي تؤدي إلى الوصول لإنتاج في مستوى النخبة بقانون الإنتاجية التالي: العمل عالي الجودة= الوقت المنقضي* حِدّة التركيز. ولفهم هذه المعادلة وأثرها على الإنتاجية بشكل أكبر سيفيدنا في هذه الحالة فهم ما يعرف بنظرية “رواسب الانتباه” (attention residue). والتي يظهر تأثيرها السلبي في حالة تعدد المهام، فإذا كنت تعمل على أكثر من مهمة بشكل متتالي فإن تفكيرك سيظل مرتبطًا بالمهمة الأولى لفترة من الوقت حتى تستجمع تركيزك الكامل في المهمة التي تليها. فالعمل العميق لا يتحقق إلا من خلال العمل لفترات ممتدة على مهمة واحدة بمعزل عن أي مشتتات أو أي مصدر من مصادر الإلهاء.

لماذا يعد العمل العميق عملة نادرة؟

انتشرت في الأونة الأخيرة العديد من الاتجاهات السائدة التي تعزز من حالة التشتت التي نحياها، لكن هذه المرة، تركز على تعزيزه -تحديدًا- في بيئة العمل، إذ انتشرت ثقافة تصميم المكاتب المفتوحة مثل التي يتبناها فيسبوك، طبعًا فيسبوك ليست وحدها من تتبنى هذا الأسلوب في سيليكون فالي. فكيف يمكن أن يعمل أكثر من 300 موظف في مساحة عمل واحدة!

أضف إلى ذلك، تطبيقات الرسائل الآنية التي صُممت بحيث ترسل إليك تنبيهاتها فور حدوثها، ودون أن تفتح التطبيق من الأساس.
يجيب نيوبرت عن السبب في شيوع هذه الاتجاهات في بيئات العميل، بأنه ناتج عن الاستسهال الأمر الآخر أن تأثير العمل الضحل غير قابل للقياس، وهذا ما يجعل الكثير من العاملين بحاجة إلى ظهور مرئي لإيضاح أنهم يعملون ويحققون إنجازًا ما، وهو ما يدفع باتجاه ملء الوقت بالعمل الضحل حتى لا يفقد الإنسان هذا الثقل المرئي المرتبط بوجوده الافتراضي.

كيف تدخل مهارة العمل العميق في حياتك؟

كشفت دراسة أجراها عالم النفس “فيلهلم هوفمان” “وروي بوميستر” عام 2012، أن الناس يقاومون الرغبات على مدار اليوم وطوال الوقت. وكان عماد هذه الدراسة تحديد أوقات مختارة عشوائيًا لمعرفة ما الذي يفكر به المبحوثين الآن أو في خلال الثلاثين دقيقة الماضية. ومن ضمن أول خمس رغبات بعد الأكل والنوم والجنس؛ كانت الرغبة في أخذ استراحة من الأعمال الشاقة، والرغبة في تصفح الإنترنت والتحقق من حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي و رسائل البريد الإلكتروني ولم ينجح الناس في مقاومة تلك الرغبات الإدمانية سوى نصف الوقت.

مع وضع هذا الأمر بالحسبان، يقرر نيوبرت بأن المفتاح الوحيد لممارسة العمل بعمق في ظل هذه الإرادة المحدودة يتمثل في بناء عادات وطقوس تُضعف تأثير تلك الرغبات، وتمكنك من الدخول في حالة التركيز الشديد بسرعة والمحافظة عليها بمقاومة أقل. ويطرح كال 4 استراتيجيات بعضها مصمم لاستثارة مركز التحفيز داخل عقلك والآخر لإعادة شحن احتياطاتك من قوة الإرادة بأسرع معدل ممكن.

1. اعمل بعمق

عندما يتعلق الأمر باستبدال الإلهاء بالتركيز فإن الأمور لا تصبح سهلة أبدًا، فلا يكفي مجرد الإيمان بأهمية العمل العميق. لذلك، كان لا بد من وضع قواعد تنظم وتحفز هذه المهارة إذا أردت أن تمارس العمل العميق بشكل جاد. ولتتمكن من تحويل الطموح إلى العمل بعمق إلى جزء أساسي ومنتظم في جدولك اليومي.

فلسفات العمل العميق

تتنوع الفلسفات التي تؤدي إلى ممارسات متنوعة للعمل بعمق. وفي هذا الإطار، نجد أربع فلسفات لممارسة العمل العميق، كما يلي:

  • الرهبانية: تعتمد هذه الفلسفة على التخلص من كل أشكال العمل الضحل في مقابل بناء نمط حياة يركز على تعظيم الإنتاج العميق. بالطبع هذه الفلسفة لا تناسب أغلب الناس، بل ربما تكون مثالية فقط لهؤلاء الذين يحققون اختراقات في تاريخ البشرية.
  • ثنائية النسق: تؤمن الفلسفة ثنائية النسق بأن الإنسان قادرٌ على الإنتاج في مستوى النخبة، بشرط أن يستمر في تركيز متصل بهدف الوصول لحالة الكثافة المعرفية، وأقصى إمكانيات القدرات الذهنية التي يصل من خلالها إلى اختراقات كبيرة في مجاله.
  • الإيقاعية: تجادل هذه الفلسفة بأن أسهل طريقة للعمل بعمق هي بجعله عادة يومية بسيطة. والهدف منها، بعبارة أخرى، هو إنشاء إيقاع لهذا العمل يزيل الحاجة إلى استثمار الطاقة في تحديد ما إذا كنت تريد التعمق في الأمر، وتوقيته  وكيفية التخطيط له. هذه الفلسفة تناسب العاملين بدوام كامل والذين لا يستطيعون التفرغ لوقت طويل للعمل بعمق.
  • الصحفية: تتلخص هذه الفلسفة في القدرة على التحول إلى العمل العميق حيثما وأينما أمكنك ذلك. لا يستطيع بطبيعة الحال أغلب الناس والمبتدئين في العمل بعمق من نهج هذا الأسلوب، لأنه يحتاج إلى ثقة عالية في قدرات المرء، هذه الثقة تقطع شوطًا واسعًا في تحفيز الجهود الشاقة. وسميت بهذا الاسم، بسبب أن الصحفيين -في العادة- قادرين على الدخول السريع في وضع الكتابة وفقًا لضروريات النشر.

صناعة العادات

العقول المبدعة تفكر مثل الفنانين وتعمل كما المحاسبين. ديفيد بروكس

لكي تحقق أقصى استفادة من العمل العميق، ابنِ طقوسًا في نفس المستوى من الصرامة والخصوصية، هذه الطقوس تساعدك على الدخول في وضع العميل العميق بسرعة ولأطول فترة ممكن. ببساطة شديدة الإنجازات العظيمة لا تأتي من خلال انتظار الإلهام وإنما عبر دفع عقلك إلى أقصى إمكاناته، ومن خلال قدرتك على التعمق مرارًا وتكرارًا.

  • أين ستعمل؟ ينبغي أن تحدد المكان المناسب للعمل بعمق، ويمكن أن يكون المكان بسيطًا مثل مكتبك العادي مع إغلاق الباب، قد يستعمل بعض الناس شارة ممنوع الإزعاج كما في الفنادق. ويمكن أن تخصص مكانًا خاصًا للعمل العميق مثل مكتبة هادئة أو غرفة الاجتماعات.
  • كيف ستعمل؟ وهنا تضع القواعد التي من شأنها أن تجعل جهودك منظمة وقابلة للقياس، مثلًا، معدل الإنجاز بالوقت.
  • ما هو الدعم اللازم في أثناء العمل؟ على سبيل المثال: الإضاءة المناسبة، الاحتفاظ بالطعام الذي يحافظ على نشاطك في أوّجه ولا يجعلك تضطر لأخذ استراحات كثيرة، ترتيب المكتب والورق لتبدأ العمل على المهام مباشرة دون اقتطاع أوقات كثيرة في أثنائه لتنظيم العمل.

التنفيذ أهم من الاستراتيجية

التنفيذ ليس أهم من الاستراتيجية فقط وإنما أصعب منها، فغالبًا ما يكون من السهل تحديد الاستراتيجية المناسبة لتحقيق هدف ما. وهنا تقع الفجوة بين ماذا نفعل وكيف نفعل، فالجميع -عمومًا- يعرفون أهدافهم التي يسعون إلى تحقيقها، لكن الذي يحقق النجاح الحقيقي هو من يدرك كيف ينفذها. يشرح نيوبرت المبادئ الأربعة للتنفيذ (4DX) وكيف يمكن استخدامها لقياس العمل العميق.

1. ركز على الأشياء المهمة

كلما كثرت المهام التي تعمل عليها، قلت في المقابل النتائج التي تحققها في كلٍ منهم. لذلك إذا أردت أن تحقق إنجازًا كبيرًا فيجب أن تستهدف عددًا قليلًا من الأهداف التي تعمل عليها.

2. قِس نجاحك

انطلاقًا من القاعدة التي تقرر أن ما يمكن قياسه يمكن إدارته، يتحدث نيوبرت عن نوعين من المقاييس التي يستخدمها الناس في العموم وهما: “مقاييس القصور” (lag measures) “ومقاييس التأثير” (lead measures). وعند التفكير في قياس مدى نجاح جهود العمل العميق فينبغي التركيز على مقاييس التأثير التي تقيس السلوكيات الجديدة التي ستقود النجاح في وقت متأخر، مثل: عدد الساعات التي تقضيها في العمل بعمق على مدار الأسبوع. وهي على عكس المقاييس التي تعالج جوانب القصور بعد فوات الآوان لتغيير السلوك، مثل: عدد الأوراق البحثية التي ينجزها الأستاذ الجامعي سنويًا.

3. احتفظ بالنتائج

يؤدي الأشخاص بشكل مختلف حينما يحتفظون بالنتائج، فإذا أرادت الشركة الدفع بموظفيها إلى تحقيق هدف عظيم الأهمية، فيفضل أن يكون هناك مكان أو لوح يراه الجميع تسجل فيه النتائج الإيجابية التي يحققها أفراد الفريق، بحيث يعزز ذلك من روح المنافسة فيما بينهم من خلال مقارنة أدائهم سعيًا في تقديم الأفضل. فعندما يلاحظ الفريق نجاحه من خلال النتائج التي يحققها يصبح أكثر رغبة إلى الاستثمار في هذا النجاح.

4. أنشئ نهجًا للمساءلة

عادة ما تتم المساءلة عبر الفريق من خلال إيقاع منتظم من الاجتماعات المتكررة لمناقشة النتائج وتحسينها، وفي حالة العمل العميق فستحتاج كذلك إلى هذا النوع من المساءلة. يقترح نيوبرت هنا ما يسميه “بالمراجعة الأسبوعية” إذ تقيّم نتائج الأسابيع الجيدة وتفهم السبب الذي أدي إلى أداءات منخفضة في الأسابيع السيئة، تساهم هذه المراجعات في تكثيف العميل العميق بشكل لم يكن ليحدث بدونها.

2. اعتد الملل

في الوقت الحالي، يصاب الناس بملل شديد إذا اضطر أحدهم لانتظار صديقه وما يلبث إلا ويتصفح هاتفه الذكي، إذا كنت من الأشخاص الذين لا يتحملون البقاء بدون إنترنت لفترة طويلة، فإن العمل بعمق سيكون صعبًا عليك، وستحتاج للتدرب عليه.

الهدف من اعتياد الملل؛ تدريب الدماغ على أن يكون مرتاحًا لمقاومة المحفزات التي تشتت الانتباه. وهذا لا يعني التخلص النهائي من هذه المشتتات وإنما أن تمتلك زمام الأمر، ولا تترك لهذه المشتتات القدرة على جذب انتباهك كلما تعرضت لها. في هذا الإطار يطرح نيوبرت مجموعة من التمارين الذهنية من أجل الاحتفاظ بتركيز لأطول وقت ممكن:

  • اقتطع وقتًا للراحة من التركيز وليس العكس
  • قاوم بحسم إغراء استخدام الإنترنت في أوقات العمل العميق
  • جدول استخدام الإنترنت في المنزل كما في العمل

من الأشياء الفعالة عند تمرس العمل العميق ما يسميه الكاتب “التأمل المثمر” وهو عبارة عن التفكير بعمق، بهدف حل مشكلة معينة دون غيرها في أثناء أداء نشاط بدني كالمشي أو السواقة أو الاستحمام وغير ذلك. يعتمد هذا الأسلوب من التأمل على نقطتين مركزيتين:

  • إجبارك على مقاومة الإلهاء وإعادة انتباهك بشكل متكرر إلى مشكلة معينة.
  • إجبارك على التركيز بعمق على مشكلة واحدة مما يعظم من قدرتك الذهنية على التركيز.

للاستفادة من هذه التجربة ينبغي الانتباه إلى عدم الابتعاد بتفكيرك عن النقطة التي تركز عليها سواء من خلال التفكير في أمور أخرى بخلافها أو التعمق الزائد في قضايا متفرعة منها، مما يجعلك تنصرف عنها كذلك. إذا حدث معك ذلك، عاود التفكير للنقطة الأول ونظم تفكيرك من خلال تحديد العوامل والمتغيرات ذات الصلة بالموضوع الذي تفكر فيه بحيث تدرك متى ينبغي أن تتوقف عند النقطة الأولى وتنتقل للنقطة التالية.

3. اعتزل وسائل التواصل الاجتماعي

وسائل التواصل الاجتماعي صُممت بحيث تودي بصاحبها إلى إدمان استخدامها. وعلى الرغم من أي شيء مرتبط بالإنترنت والتكنولوجيا يعد في اللاوعي الجمعي مفيدًا، إلا أن هذا النوع من التكنولوجيا ليس حيويًا ولا يقوم إلا بدور ترفيهي في حياة الناس. فعادة يبرر الناس استخدامهم لأداة ما، إذا تمكنوا من تحديد فائدة محتملة أو خسارة متوقعة في حالة عدم استخدامها.

ولا يجادل نيوبرت بأن هذه التطبيقات عديمة الفائدة بالكلية، بل يقدم في المقال التصور الذي ينبغي أن يتبعه الناس عند اختيار أدوات الإنترنت التي يمكن أن تمثل لهم فائدة حقيقة في حياتهم المهنية أو الشخصية. وهو مستوحى من نهج المزارع الذي يعمل في مهنة تتطلب عناية وإدارة شديدة عند اختيار أدوات الزراعة وعند استخدامها. ويمكن الاستفادة من هذا النهج باتباع التالي:

  1. تحديد أهم هدفين في الحياة المهنية والشخصية.
  2. إنشاء قائمة بأهم نشاطين أو ثلاثة أنشطة رئيسية تساهم في تحقيق الأهداف السابقة.

في هذه الحالة، لا تستخدم أي أداة إلا إن كان لها آثار إيجابية مباشرة على هذه العوامل، تفوق بدرجة كبيرة آثارها السلبية. وبالحديث عن وسائل التواصل الاجتماعي، فلا خلاف على أنها تُضْعف من قدرتك وإرادتك للتركيز والعمل العميق. وستجد أن أغلب دوافع الناس في الاستخدام طفيفة وعشوائية، ومقدار الفائدة التي يحصلون عليها لا تتوازى إطلاقًا بالقدر الهائل من التشتت وعدم التحكم في الأوقات. وهنا يطرح كال طريقة فعالة لاعتزال وسائل التواصل الاجتماعي:

  1. أوقف استخدامها لمدة ثلاثين يومًا وبدون إعلام أحد، وبعد انتهاء هذه المدة أسأل نفسك الآتي:
  • هل حياتك أفضل قبل الثلاثين يومًا أم الآن؟
  • هل تأثر أو اهتم أحد بغيابك؟

إذا كانت إجابتك بالنفي، فحري بك اعتزال وسائل التواصل الاجتماعي بشكل نهائي. وإذا كانت إجابتك غير حاسمة، فيمكنك كذلك التوقف عن الاستخدام مؤقتًا والعودة إليها بعد ذلك.

  1. لا تستخدم الإنترنت للترفيه، كما أشار نيوبرت قبل ذلك من أن تحفيز الدماغ على ممارسة العمل العميق لا يتوقف على تطبيق الاستراتيجيات السابقة في أوقات العمل وفقط، وإنما البحث عن حياة ذات معنى وأفضل خارج أوقات العمل أيضًا. وهنا ينبغي التفكير والتخطيط لوقت الفراغ حتى تعطي لنفسك بدائل قيّمة تمنعك من التفكير في العمل أو الاستسلام لهذه التطبيقات التي تصبح الخيار المنطقي والأكثر إغراء عند الفراغ.

4. قلص العمل الضحل إلى أقصى حد

الاستراتيجية الرابعة للعمل العميق تدعوك إلى التعامل بحذر وبكثير من الشكوك تجاه الأعمال التي تستهلك كثيرًا من وقتك بدون فائدة مرجوة. ويسمى الكاتب هذا النوع من الأعمال بالعمل الضحل، ويمكن تعريفه كما يلي: هو العمل على مهام غير معرفية بالأساس ذات طابع لوجستي، ويمكن تأديتها دون انتباه كامل. وهي لا تتمحور حول إضافة قيمة جديدة ويمكن استنساخها بسهولة.

وفي السياق نفسه، ينبغي الوعي بأن هذا النوع من الأعمال ضرورية ولا مفر منها، لكنها يجب أن تبقى محصورة في نطاق معين بحيث لا تعيقك عن العمل على ما هو أهم. إضافة إلى ذلك، فإن العمل العميق مرهق لإنه يستنزف أقصى القدرات الذهنية للدماغ وبالتالي لا يُتوقع الاستمرار به طوال اليوم. ولتقليص العمل الضحل من يومك، يقترح نيوبرت التالي:

1. خطط لكل دقيقة في ساعات العمل

في بداية كل يوم، أفتح صفحة جديدة من الورق المسطر في دفتر ملاحظات تخصصه لهذا الغرض، ميّز كل سطر ليعبر عن ما تنوي فعله في كل ساعة من اليوم ثم قسم ساعات العمل إلى فترات زمنية حدها الأدنى ثلاثين دقيقة مع تفصيل ما تنوي فعله في أثنائها من مهام.

الدافع وراء هذه الاستراتيجية هو أن تتعامل مع وقتك باحترام، من خلال تحديد ما ستفعله مسبقًا في كل دقيقة من يوم عملك، والنتيجة المنطقية لهذا التخطيط تكمن في امتلاك زمام التحكم في جدولك اليومي ولا تتركه للمهام العاجلة والضحلة.

2. قيّم مهام عملك نسبة إلى العمق والضحالة

الرد على الإيميلات، والتخطيط لعقد اجتماعات، وتصفح الإنترنت من المهام الضحلة التي لا خلاف عليها، لكن للأسف، لا تحتوى كل المهام هذا القدر من الوضوح إذا أردنا تصنيفها نسبة إلى العمق والضحالة. يرشح نيوبرت هنا مقياسًا يُمكّنك من تقييم بعض المهام المختلف عليها مثل: تحرير مسودة لورقة أكاديمية ستنشر قريبًا. أو إعداد عرض تقديمي حول مبيعات الربع السنوي الماضي.

سيساعدك في تمييز المهمتين السابقتين أن تقيّمهما بناءً على هذا السؤال: كم من الوقت (بالأشهر) سيستغرقه متدرب حديث التخرج في أداء هذه المهام؟ الهدف من هذه الاستراتيجية هي أن توزع وقتك بناء على هذه النوعية من المهام من جهة الضحالة والقيمة، وسنرى في المثال السابق أن المهمة الأولى بحاجة لإعطاء الأولوية لها على المهمة الثانية. لكن كيف يمكن تنفيذ ذلك في أرض الواقع؟

3. ناقش الأمر مع مديرك

لدعم سعيك في العمل بعمق ستحتاج إلى توفير بيئة عمل تدعم هذا الاتجاه وتدرك أهميته. وبالحديث في هذا الأمر مع مديرك فستكون مجبرًا على تقييد مقدار الالتزامات الأقل إلحاحًا وتحرير مساحة أكبر من الوقت لأداء المهام الأكثر عمقًا. وبمرور الوقت ستصبح قادرًا على رفض المهام التي لا تمثل أي فائدة بالنسبة لمشوارك المهني وكذلك على صعيد القيمة المضافة التي تجنيها الشركة، فالشركات في كل الأحوال لن تهتم بتقديم حياة سهلة لموظفيها إلا بقدر اهتمامها بتوليد قيمة لجمهورها من خلال نشاطها التجاري.

4. لا تعمل بعد الخامسة مساءً

الهدف من هذه الاستراتيجية هو الالتزام بعدم العمل بعد انتهاء أوقات العمل. وهو ما يسميه نيوبرت؛ الالتزام بالإنتاجية ذات الجدول الزمني الثابت، ومن ثم العمل على إيجاد استراتيجيات تعزز من الإنتاج في خلال ساعات العمل وتجبرك على الوفاء بهذا الالتزام.

الالتزام بجدول ثابت يدفعك إلى تقليل الأعمال الضحلة إلى أقصى حد، في عصرٍ يجب أن نعطي كل العناية لعاداتنا التنظيمية. إضافة إلى ذلك، فإن التخفف من تلك الأعمال من شأنه أن يضيف إليك طاقة أكبر للعمل على المهام ذات القيمة، ويقترح نيوبرت هنا طريقة مناسبة للاعتذار عن المهام الضحلة؛ وهو قول لا صريحة دون تقديم تفاصيل حول الأسباب، فقد يتورط بعض الناس في محاولة لتخفيف الاعتذار القاطع بإلزام أنفسهم بمهمات أخرى تستهلك الوقت نفسه. على سبيل المثال: أعتذر عن حضور المؤتمر، لكن يمكنني أن أقدم اقتراحاتي بشأن العروض التقديمية..

5. كن صعب الوصول إليك

الاستسلام المطلق للرد -أو الرد السريع- على كل بريد إلكتروني يصلك سيؤدي بك إلى نتائج كارثية فيما يخص العمل العميق والإنتاجية كمصطلح أوسع. والطريقة التي يقترحها نيوبرت لإدارة هذا الأمر بفعالية تتمثل في ثلاثة نقاط:

  • صنف الرسائل التي تصل إلى بريدك: عبر وضع توقعات لنوع الرسالة التي يرسلها إليك المتابعون. على سبيل المثال: إذا كان لديك أي اقتراح أو عرض مثير للاهتمام فأرسله إلى هذا البريد، وما دون ذلك من الرسائل تجاهله ببساطة.
  • جهز ردودًا آلية على الرسائل المتوقعة: العديد من الرسائل المتوقعة يمكن الاكتفاء بالرد عليها مرة واحدة بدلًا من الدخول في مراسلات عديدة للوصول إلى النتيجة نفسها.
  • لا ترد على الرسائل: إذا كانت غامضة واحتاجت منك وقتًا للإجابة، أو إذا لم تكن سؤالًا أو اقتراحًا يثير انتباهك، أو في حالة تساوى الرد وعدمه.

خاتمة

بنهاية الاستراتيجية الرابعة نكون أنهينا مراجعة هذا الكتاب الذي يعد فارقًا على مستوى الأفكار والممارسات الجمعية التي تشكلت في أذهاننا عن ثقافة العمل وطبيعته، بل ربما يتجاوز حياة العمل إلى مطلق الشعور بحياة أكثر غنى وسعادة. فكما ورد في الكتاب من أن السعادة ليست ما تخلقه لنا الظروف بل على العكس من ذلك هي ما نهتم به وما نختار تجاهله، وهذا الاختيار في المقابل يحدد جودة حياتنا.

المميز في كتاب العمل العميق أنه لم يغفل جانب التطبيق والممارسة، ففي الوقت الذي يشحذ همتك إلى العمل العميق، يقدم بين يديك نصائح واستراتيجيات فعالة تمكنك من تحقيقه على أرض الواقع. لذا قالت عنه صحيفة الإيكونومست “العمل العميق هو التطبيق القاتل لاقتصاد المعرفة”.

تم النشر في: مراجعات كتب