
بدأت رحلتي الاحترافية منذ تسع سنوات، من بينها خمس سنوات كان العمل الحر فيها مصدر دخلي الأساسي. بالطبع لم تكن الرحلة سهلة، لكنها كانت مليئة بالتجارب، والتحديات، والدروس المستفادة. فما أهم ما تعلمته بعد كل هذه الفترة؟
1. فهم المعنى الحقيقي للعمل الحر
في البداية، وجدت دعوات عديدة منتشرة عبر الإنترنت تؤكد أنه سيخلّصك من روتين الوظيفة التقليدية، وسيصبح بإمكانك العمل وقتما وأينما تريد، وقد لا تحتاج من يومك سوى ساعات قليلة، وفي النهاية ستحقق الثراء الفاحش.
المشكلة أن هذه الدعوات خلطت الحقيقة بالخيال، وهذا ما عرفته بعد دخولي الفعلي إلى عالم العمل الحر؛ إذ يمكن فعلًا تحقيق دخل مناسب منه، ولكن هذا لا يتحقق بمثل الأفكار السابقة، بل يحتاج إلى عقلية مناسبة للتعامل معه.
قد لا تحتاج إلى العمل بنمط ثابت من التاسعة صباحًا إلى الخامسة مساءً كما في الوظيفة، لكنك بحاجة أيضًا إلى نظام عمل كمستقل، ويشمل ذلك:
- بناء ملف شخصي يُثبت احترافيتك للعملاء، وكتابة عروض تُقنعهم بالعمل معك.
- التخطيط لمواعيد عملك وفقًا لطبيعة المشاريع التي تعمل عليها.
- الالتزام بمتطلبات هذه المشاريع؛ بما في ذلك التواصل الدوري مع العملاء، ومتابعة تعديلاتهم وأي متطلبات جديدة لديهم.
- متابعة المشاريع الجديدة التي تُنشر دوريًا لتقديم عروضك عليها حسب ما يناسبك منها.
2. بناء نظام عمل يناسبني
انطلقت من النظر إلى ذاتي بأنني شركة من فرد واحد، ينطبق عليّ ما ينطبق على الشركات من ضرورة التخطيط للأمور الإدارية والمالية والتنفيذية. وهذه أهم الأسس التي وضعتها:
- التخطيط المالي: حساب نفقاتي وتكاليفي والدخل الذي أحتاج إلى تحقيقه.
- التسعير: وضع أساس واضح لتسعير عملي، انطلاقًا من التخطيط المالي.
- المشاريع: التخطيط لعدد وطبيعة المشاريع التي يمكنني العمل عليها، اعتمادًا على احتياجاتي المالية وقدرتي الاستيعابية، لضمان الربحية والجودة معًا.
- إدارة العمل: استخدام أداة لتنظيم أعمالي، مثل أداة أنا، للاعتماد عليها في إدارة ومتابعة مختلف المهام.
- تطوير المهارات: العمل الحر يتطلب مواكبة احتياجات العملاء المتجددة، ما يدعو إلى تخصيص وقت لتطوير مهاراتي، سواء عبر الدورات التدريبية أو الكتب والمقالات المتخصصة أو غير ذلك.
3. في البدء كان معرض الأعمال
العملاء، وإن أعجبهم عروضك على مشاريعهم وتفاصيل حسابك، فإن ما يبحثون عنه فعلًا هو جودة عملك، وهو ما يمكنهم التأكد منه عبر معرض الأعمال.
من الأمور التي أكدت لي الفكرة بمرور الوقت، أن مقالاتي المنشورة على مدونة مستقل كانت سببًا في اختياري للعديد من المشاريع الخاصة، فلم يكن يمر شهر تقريبًا دون تلقي عرض واحد على الأقل لمشروع خاص.
لذا، من اللحظة الأولى لا بد من التركيز على بناء معرض أعمال قوي، الاهتمام دائمًا بنوعية المشاريع التي ننفذها كمستقلين، وكيف سيؤثر وجودها على هويتنا الرقمية. وحتى إذا لم توجد مشاريع حقيقية بعد، يمكن الاعتماد على نماذج الأعمال الافتراضية لبناء معرض الأعمال.
ضع في الحسبان أن بناء معرض الأعمال عملية مستمرة، فلا بد من تطويره من حين إلى آخر، بإضافة نماذج جديدة، وحذف أو تحسين النماذج القديمة، لضمان أنه يعكس أفضل مستوى وصلت إليه.
4. التخصص مفتاح مهم للنجاح
يبحث العملاء عادةً عن حلول لمشكلات محددة، ولذلك يفضلون مستقلين متخصصين. هذا ما عرفته مبكرًا لحسن حظي، فتخصصت في صناعة المحتوى بصفة عامة في البداية، ثم ركزت أكثر على تقديم نفسي بصفتي كاتب مقالات.
ما الفارق؟ في الحالة الأولى، نادرًا ما حظيت بفرص عمل؛ أما منذ تخصصت زادت نسبة المشاريع التي عملت عليها. إضافة إلى أن التخصصية تفتح لك المجال لتقديم خدمات أعلى جودة، وذلك لعدة أسباب:
- تجعلك ضليعًا أكثر في مجال عملك، نتيجة العمل على مشاريع متنوعة به.
- تمكّنك من التركيز على نطاق محدد، فتتابع كل جديد فيه، وتكون مطلع على تحديثاته باستمرار.
- تكسبك ثقة العملاء الذين يرونك خبيرًا فيما تقدمه، وتملك سجلًا يؤكد ذلك.
كتبت مقالًا سابقًا حول تجربتي في تحديد تخصصك الدقيق في العمل الحر والنجاح به، يمكنك الاستفادة منه في هذا السياق. ومع الوقت، ستجد نفسك قادرًا على الاتجاه نحو خدمات أكثر عمقًا في مجال عملك، مثل الاستشارات أو تطوير المنتجات الرقمية.
5. الالتزام لا يقل أهمية عن الجودة
هذا الدرس تعلمته بالطريقة الصعبة، وكدت أخسر كل شيء بسببه. إذ حدث في مرحلة ما أن تراجع التزامي في المشاريع التي أعمل عليها، وفي حين كنت أقدم جودة عالية على مستوى التنفيذ، أتأخر أحيانًا عن مواعيد التسليم المحددة.
على فترات قريبة جدًا تحدث معي أكثر من عميل عن تفكيرهم جديًا في إنهاء العمل معي، وأخبروني أنهم يدركون جودة عملي، لكن ما الفائدة من ذلك إذا سلّمت أعمالي متأخرًا وتسببت في تعطيل جداول النشر الخاصة بهم؟
نجحت في تدارك الأمر والتزمت مرة أخرى، واستمر عملي معهم بعد التزامي الفعلي، لا بمجرد وعودي أن أفعل ذلك. وبعدها حصلت على مهام أكبر. ومن هنا تيقنت أن الجمع بين الجودة والالتزام لا غنى عنه، ويبني علاقة قوية ومستمرة مع العملاء.
6. العمل مع العميل كأنك شريك في مشروعه
واحدة من أهم النقاط التي ساعدتني على النجاح في العمل الحر هي أنني أعمل مع العميل كأنني شريك في مشروعه، والمقصد أنني لا أفكر فيما أقدمه من منظور خدمة أرغب في الانتهاء منها وتسليم المشروع سريعًا فقط.
أحرص على تقديم قيمة حقيقية للعميل، ابتداءً من مناقشته في تفاصيل المشروع، وتقديم اقتراحاتي لتطوير العمل. وعندما يطلب العميل تعديلات، أتقبلها بصدر برحب من منطلق أن الهدف هو الوصول إلى أعلى جودة ممكنة.
هذه النظرة عندما يدرك العميل وجودها يُقدّرك كثيرًا، بل وتفتح المجال للعمل معًا في مشاريع أخرى مستقبلًا. على سبيل المثال، ذات مرة طلب مني عميل كتابة أربع مقالات، كان لديه هدف معين يرغب في تحقيقه، وعندما شاركني مقترحه عن أحد المقالات، أخبرته برؤيتي وأنه قد يكون الأفضل لو تناولنا الفكرة من زاويةٍ مختلفة، وبالفعل اقتنع بالأمر ونفذت المشروع.
وبعدها فكرت معه في موضوعات مستقبلية يمكن الكتابة عنها، وتجاوزت أفكاري مساحة الكتابة لنقاش تفاصيل متعلقة بالعمل التجاري نفسه، ووقتها عرض عليّ الاستمرار في الكتابة لفترات أطول، وعملنا معًا ثلاثة أشور متواصلة.
ما ينبغي وضعه بالحسبان، أن هذه المهارة تنمو مع تطوير مهاراتك في مجالك، والوصول إلى مستوى يقدرّك على تقييم المعطيات والنتائج بناءً عليها.
7. عدم الاعتماد على المشاريع المستمرة فقط
في البداية استهدفت العمل على المشاريع المستمرة، وعندما تحقق الهدف، وكان لديّ عدد معين من العملاء الذين تتجدد مشاريعهم، اكتفيت بذلك وتوقفت لفترة عن البحث عن مشاريع أخرى جديدة.
كان الأمر أشبه بوضع البيض كله في سلة واحدة، وعندما انكسرت السلة، توقف عدة عملاء عن العمل دفعة واحدة، فوجدت نفسي في مأزق؛ إذ لم تكن لدي خيارات بديلة وقتها، فلا توجد مشاريع أخرى أعمل عليها آنذاك.
تعلمت من هذا الموقف أنه من الجيد وجود مشاريع مستمرة أعمل عليها، لكن من المهم أيضًا البحث عن مشاريع جديدة دوريًا، وتقديم عروضي عليها، حتى وإن كانت لمرة واحدة فقط.
8. التسويق الذاتي دائمًا
في العالم الرقمي، لا بد من التركيز على التسويق الشخصي لإبراز ما تقدمه، والتجارب أثبتت معي أن الأفضل فعل ذلك في إطارٍ احترافي، عبر هوية رقمية متكاملة. يمكنك بناء هويتك عبر فعل الآتي:
الهوية البصرية
ساعدتني الهوية البصرية على تمييزي وسهولة التعرف علي، وتتضمن عناصر متعددة، أهمها:
- شعار معبّر عنك وعن عملك، وقد يكون صورة شخصية احترافية.
- مجموعة الألوان الأساسية المناسبة لك.
- نوع الخط المستخدم في التصاميم.
- النمط البصري الموحد في التصاميم.
اعتمدت في تصميم هويتي على مصمم محترف عبر مستقل، لضمان بناء هوية احترافية على يد خبير. ويمكنك فعل المثل ليساعدك على تنفيذ هويتك البصرية المطلوبة.
النشاط على منصات التواصل الاجتماعي والمجتمعات
ليس شرطًا التواجد على جميع المنصات، بل التركيز على التي المنصات التي يتواجد فيها جمهورك المستهدف، من العملاء أو المستقلين الذين تستطيع تبادل الخبرات معهم.
ابنِ حضورك حول قيمة مضافة حقيقية تقدمها، فبدلًا من الترويج المستمر لخدماتك، ركز على تقديم محتوى مفيد كالآتي:
- شروحات متخصصة مهمة لجمهورك المستهدف.
- مشاركة تقييمات عملاءك، وذكر أبرز الإنجازات التي تفخر بها في كل مشروع.
- التفاعل مع مشاركات العملاء والمستقلين، والتشبيك معهم عبر المناقشات المثمرة، أو الرد على الأسئلة والاستفسارات.
الموقع الشخصي
رغم نشاطي المستمر على منصات التواصل الاجتماعي، إلا أنني احتجت إلى أصل رقمي يُعد مركزًا لهويتي الرقمية، حيث أتحكم بجميع التفاصيل وأضيف كل ما يمثلني في مكانٍ واحد: حساباتي على مستقل، وروابط مواقع التواصل الاجتماعي والمجتمعات، وأبرز التقييمات والمشاريع التي أفخر بها، وقيمي ورسالتي في العمل.
كما أن الموقع الشخصي أصبح مورد تسويقي يعبّر عن أسلوبي في الكتابة والإقناع من خلال محتوى الموقع، إضافةً إلى كونه وسيلة لاستقطاب الجمهور عبر محركات البحث.
جربت خيارات عديدة لبناء موقعي، خصوصًا مع عدم خبرتي في البرمجة، فكنت أبحث عن خيار يجمع بين السهولة والاحترافية. وقع اختياري في النهاية على سنديان، وأنشأت موقعي خلال دقائق باستخدام القوالب الجاهزة والتخصيص المرن، وبالفعل حصلت على نتيجة احترافية في النهاية.
9. مساحات التطور في العمل الحر
مع تطور مهاراتي في العمل الحر، ونمو نوعية المشاريع التي أعمل عليها، فُتحت أمامي آفاق واسعة في التطور الوظيفي. فحصلت بمرور الوقت على فرص للعمل محررًا، وكذلك مدير لمشاريع أخرى.
لا ينتهي الأمر عند فرص التطور في العمل مع العملاء، بل يمكن للخبرات التي تحصدها أن تؤهلك لإنشاء عملك الخاص، كأن تؤسس شركة في مجال عملك. حققت ذلك بالفعل، وبدأت شركة تسويق بالمحتوى، وجميع العاملين من المستقلين المحترفين.
ختامًا، رحلتي في العمل الحر لا زالت مستمرة، وأعرف أن أمامي الكثير لأتعلمه، والعديد من التجارب لأخوضها. لكنني فخور بما حققته حتى الآن في الرحلة، وأتمنى أن تجد في الدروس التي شاركتها معك ما يعينك في رحلتك.
تم النشر في: مايو 2025
تحت تصنيف: العمل الحر | نصائح للمستقلين